فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج حر المصيبة وحزنها
قال تعالى : " وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون " [ البقرة : 155 ] . وفي المسند عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها ، إلا أجاره الله في مصيبته ، وأخلف له خيراً منها " .
وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب ، وأنفعه له في عاجلته وآجلته ، فإنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته .
أحدهما : أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة ، وقد جعله عند العبد عارية ، فإذا أخذه منه ، فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير ، وأيضاً فإنه محفوف بعدمين : عدم قبله ، وعدم بعده ، وملك العبد له متعة معارة في زمن يسير ، وأيضاً فإنه ليس الذي أوجده عن عدمه ، حتى يكون ملكه حقيقة ، ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده ، ولا يبقي عليه وجوده ، فليس له فيه تأثير ، ولا ملك حقيقي ، وأيضاً فإنه متصرف فيه بالأمر تصرف العبد المأمور المنهي ، لا تصرف الملاك ، ولهذا لا يباح له من التصرفات فيه إلا ما وافق أمر مالكه الحقيقي .
والثاني : أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق ، ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره ، ويجيء ربه فرداً كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا مال ولا عشيرة ، ولكن بالحسنات والسيئات ، فإذا كانت هذه بداية العبد وما خوله ونهايته ، فكيف يفرح بموجود ، أو يأسى على مفقود ، ففكره في مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء ، ومن علاجه أن يعلم علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه . قال تعالى : " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور " [ الحديد : 22 ] .
ومن علاجه أن ينظر إلى ما أصيب به ، فيجد ربه قد أبقى عليه مثله ، أو أفضل منه ، وادخر له - إن صبر ورضي - ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة ، وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هي .
ومن علاجه أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب ، وليعلم أنه في كل واد بنو سعد ، ولينظر يمنة ، فهل يرى إلا محنة ؟ ثم ليعطف يسرة ، فهل يرى إلا حسرة ؟ ، وأنه لو فتش العالم لم ير فيهم إلا مبتلى ، إما بفوات محبوب ، أو حصول مكروه ، وأن شرور الدنيا أحلام نوم أو كظل زائل ، إن أضحكت قليلاً ، أبكت كثيراً ، وإن سرت يوماً ، ساءت دهراً ، وإن متعت قليلاً ، منعت طويلاً ، وما ملأت داراً خيرة إلا ملأتها عبرة ، ولا سرته بيوم سرور إلا خبأت له يوم شرور ، قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : لكل فرحة ترحة ، وما ملئ بيت فرحاً إلا ملئ ترحاً . وقال ابن سيرين : ما كان ضحك قط إلا كان من بعده بكاء .
وقالت هند بنت النعمان : لقد رأيتنا ونحن من أعز الناس وأشدهم ملكاً ، ثم لم تغب الشمس حتى رأيتنا ونحن أقل الناس ، وأنه حق على الله ألا يملأ داراً خيرة إلا ملأها عبرة .
وسألها رجل أن تحدثه عن أمرها ، فقالت : أصبحنا ذا صباح ، وما في العرب أحد إلا يرجونا ، ثم أمسينا وما في العرب أحد إلا يرحمنا .
وبكت أخ تها حرقة بنت النعمان يوماً ، وهي في عزها ، فقيل لها : ما يبكيك ، لعل أحداً آذاك ؟ قالت : لا ، ولكن رأيت غضارة في أهلي ، وقلما امتلأت دار سروراً إلا امتلأت حزناً .
قال إسحاق بن طلحة : دخلت عليها يوماً ، فقلت لها : كيف رأيت عبرات الملوك ؟ فقالت : ما نحن فيه اليوم خير مما كنا فيه الأمس ، إنا نجد في الكتب أنه ليس من أهل بيت يعيشون في خيرة إلا سيعقبون بعدها عبرة ، وأن الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه إلا بطن لهم بيوم يكرهونه ، ثم قالت :
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا إذا نحـن فيهم سوقة نتنصف
فـــأف لدنيـــا لا يـدوم نـعـيـمهـا تقلب تـارات بنـــا وتصـــرف
ومن علاجها أن يعلم أن الجزع لا يردها ، بل يضاعفها ، وهو في الحقيقة من تزايد المرض .
ومن علاجها أن يعلم أن فوت ثواب الصبر والتسليم ، وهو الصلاة والرحمة والهداية التي ضمنها الله على الصبر ، والإسترجاع أعظم من المصيبة في الحقيقة .
ومن علاجها أن يعلم أن الجزع يشمت عدوه ، ويسوء صديقه ، ويغضب ربه ، ويسر شيطانه ، ويحبط أجره ، ويضعف نفسه ، وإذا صبر واحتسب أنضى شيطانه ، ورده خاسئاً ، وأرضى ربه ، وسر صديقه ، وساء عدوه ، وحمل عن إخوانه ، وعزاهم هو قبل أن يعزوه ، فهذا هو الثبات والكمال الأعظم ، لا لطم الخدود ، وشق الجيوب ، والدعاء بالويل والثبور ، والسخط على المقدور .
ومن علاج ها : أن يعلم أن ما يعقبه الصبر والإحتساب من اللذة والمسرة أضعاف ما كان يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه ، ويكفيه من ذلك بيت الحمد الذي يبنى له في الجنة على حمده لربه واسترجاعه ، فلينظر : أي المصيبتين أعظم ؟ : مصيبة العاجلة ، أو مصيبة فوات بيت الحمد في جنة الخلد . وفي الترمذي مرفوعاً : " يود ناس يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء " .
وقال بعض السلف : لو لا مصائب الدنيا لوردنا القيام مفاليس .
ومن علاجها : أن يروح قلبه بروح رجاء الخلف من الله ، فإنه من كل شئ عوض إلا الله ، فما منه عوض كما قيل :
من كل شئ إذا ضيعته عوض وما من الله إن ضيعته عوض
ومن علاجها : أن يعلم أن حظه من المصيبة ما تحدثه له ، فمن رضي ، فله الرضى ، ومن سخط ، فله السخط ، فحظك منها ما أحدثته لك ، فاختر خير الحظوظ أو شرها ، فإن أحدثت له سخطاً وكفراً ، كتب في ديوان الهالكين ، وإن أحدثت له جزعاً وتفريطاً في ترك واجب ، أو فعل محرم ، كتب في ديوان المفرطين ، وإن أحدثت له شكاية ، وعدم صبر ، كتب في ديوان المغبونين ، وإن أحدثت له اعتراضاً على الله ، وقدحاً في حكمته ، فقد قرع باب الزندقة أو ولجه ، وإن أحدثت له صبراً وثباتاً لله ، كتب في ديوان الصابرين ، وإن أحدثت له الرضى عن الله ، كتب في ديوان الراضين ، وإن أحدثت له الحمد والشكر ، كتب في ديوان الشاكرين ، وكان تحت لواء الحمد مع الحمادين ، وإن أحدثت له محبة واشتياقاً إلى لقاء ربه ، كتب في ديوان المحبين المخلصين .
وفي مسند الإمام أحمد والترمذي ، من حديث محمود بن لبيد يرفعه : " إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط " . زاد أحمد : " ومن جزع فله الجزع " .
ومن علاجها : أن يعلم أنه وإن بلغ في الجزع غايته ، فآخر أمره إلى صبر الإضطرار ، وهو غير محمود ولا مثاب ، قال بعض الحكماء : العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام ، ومن لم يصبر صبر الكرام ، سلا سلو البهائم . وفي الصحيح مرفوعاً : " الصبر عند الصدمة الأولى " . وقال الأشعث بن قيس : إنك إن صبرت إيماناً واحتساباً ، وإلا سلوت سلو البهائم .
ومن علاجها : أن يعلم أن أنفع الأدوية له موافقة ربه وإلهه فيما أحبه ورضيه له ، وأن خاصية المحبة وسرها موافقة المحبوب ، فمن ادعى محبة محبوب ، ثم سخط ما يحبه ، وأحب ما يسخطه ، فقد شهد على نفسه بكذبه ، وتمقت إلى محبوبه .
وقال أبو الدرداء : أن الله إذا قضى قضاء ، أحب أن يرضى به ، وكان عمران بن حصين يقول في علته : أحبه إلي أحبه إليه ، وكذلك قال أبو العالية .
وهذا دواء وعلاج لا يعمل إلا مع المحبين ، ولا يمكن كل أحد أن يتعالج به .
ومن علاجها : أن يوازن بين أعظم اللذتين والمتعتين ، وأدومهما : لذة تمتعه بما أصيب به ، ولذة تمتعه بثواب الله له ، فإن ظهر له الرجحان ، فآثر الراجح ، فليحمد الله على توفيقه ، وإن آثر المرجوح من كل وجه ، فليعلم أن مصيبته في عقله وقلبه ودينه أعظم من مصيبته التي أصيب بها في دنياه .
ومن علاجها أن يعلم أن الذي ابتلاه بها أحكم الحاكمين ، وأرحم الراحمين ، وأنه سبحانه لم يرسل إليه البلاء ليهلكه به ، ولا ليعذبه به ، ولا ليجتاحه ، وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه ، وليسمع تضرعه وابتهاله ، وليراه طريحاً ببابه ، لائذاً بجنابه ، مكسور القلب بين يديه ، رافعاً قصص الشكوى إليه .
قال الشيخ عبد القادر : يا بني ! إن المصيبة ما جاءت لتهلكك ، وإنما جاءت لتمتحن صبرك وإيمانك ، يا بني ! القدر سبع ، والسبع لا يأكل الميتة .
والمقصود : أن المصيبة كير العبد الذي يسبك به حاصله ، فإما أن يخرج ذهباً أحمر ، وإما أن يخرج خبثاً كله ، كما قيل :
سبكناه ونحسبه لجيناً فأبدى الكير عن خبث الحديد
فإن لم ينفعه هذا الكير في الدنيا ، فبين يديه الكير الأعظم ، فإذا علم العبد أن إدخاله كير الدنيا ومسبكها خير له من ذلك الكير والمسبك ، وأنه لا بد من أحد الكيرين ، فليعلم قدر نعمة الله عليه في الكير العاجل .
ومن علاجها : أن يعلم أنه لو لا محن الدنيا ومصائبها ، لأصاب العبد - من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب - ما هو سبب هلاكه عاجلاً وآجلاً ، فمن رحمة أرحم الراحمين أن يتفقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب ، تكون حمية له من هذه الأدواء ، وحفظاً لصحة عبوديته ، واستفراغاً للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه ، فسبحان من يرحم ببلائه ، ويبتلي بنعمائه كما قيل :
قد ينعم بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
فلو لا أنه - سبحانه - يداوي عباده بأدوية المحن والإبتلاء ، لطغوا ، وبغوا ، وعتوا ، والله - سبحانه - إذا أراد بعبد خيراً سقاه دواء من الإبتلاء والإمتحان على قدر حاله يستفرغ به من الأدواء المهلكة ، حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه ، أهله لأشرف مراتب الدنيا ، وهي عبوديته ، وأرفع ثواب الآخرة ، وهو رؤيته وقربه .
ومن علاجها : أن يعلم أن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة الآخرة ، يقلبها الله سبحانه كذلك ، وحلاوة الدنيا بعينها مرارة الآخرة ، ولأن ينتقل من مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خير له من عكس ذلك ، فإن خفي عليك هذا ، فانظر إلى قول الصادق المصدوق : " حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات " .
وفي هذا المقام تفاوتت عقول الخلائق ، وظهرت حقائق الرجال ، فأكثرهم آثر الحلاوة المنقطعة على الحلاوة الدائمة التي لا تزول ، ولم يحتمل مرارة ساعة لحلاوة الأبد ، ولا ذل ساعة لعز الأبد ، ولا محنة ساعة لعافية الأبد ، فإن الحاضر عنده شهادة ، والمنتظر غيب ، والإيمان ضعيف ، وسلطان الشهوة حاكم ، فتولد من ذلك إيثار العاجلة ، ورفض الآخرة ، وهذا حال النظر الواقع على ظواهر الأمور ، وأوائلها ومبادئها ، وأما النظر الثاقب الذي يخرق حجب العاجلة ، ويجاوزه إلى العواقب والغايات ، فله شأن آخر .
فادع نفسك إلى ما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته من النعيم المقيم ، والسعادة الأبدية ، والفوز الأكبر ، وما أعد لأهل البطالة والإضاعة من الخزي والعقاب والحسرات الدائمة ، ثم اختر أي القسمين أليق بك ، وكل يعمل على شاكلته ، وكل أحد يصبو إلى ما يناسبه ، وما هو الأولى به ، ولا تستطل هذا العلاج ، فشدة الحاجة إليه من الطبيب والعليل دعت إلى بسطه ، وبالله التوفيق .
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الكرب والهم والغم والحزن
أخرجا في الصحيحين من حديث ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب : " لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السماوات السبع ، ورب الأرض رب العرش الكريم " .
وفي جامع الترمذي عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان إذا حزبه أمر ، قال : " يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث " .
وفيه : عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان إذا أهمه الأمر ، رفع طرفه إلى السماء فقال : " سبحان الله العظيم " ، وإذا اجتهد في الدعاء قال : " يا حي يا قيوم " .
وفي سنن أبي داود عن أبي بكرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " دعوات المكروب : اللهم رحمتك أرجو ، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين ، وأصلح لي شأني كله ، لا إله إلا أنت " .
وفيها أيضاً عن أسماء بنت عميس قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أعلمك كلمات تقوليهن عند الكرب ، أو في الكرب : الله ربى لا أشرك به شيئاً " . وفي رواية أنها تقال سبع مرات .
وفي مسند الإمام أحمد عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما أصاب عبداً هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك ، ابن عبدك ، ابن أمتك ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحداً من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك : أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ، ونور صدري وجلاء حزني ، وذهاب همي ، إلا أذهب الله حزنه وهمه ، وأبدله مكانه فرحاً " .
وفي الترمذي عن سعد بن أبي وقاص ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دعوة ذي النون إذ دعا ربه وهو في بطن الحوت : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، لم يدع بها رجل مسلم في شئ قط إلا استجيب له " .
وفي رواية " إني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إلا فرج الله عنه : كلمة أخي يونس " .
وفي س نن أبي داود عن أبي سعيد الخدري ، قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد ، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له : أبو أمامة ، فقال : " يا أبا أمامة مالي أراك في المسجد في غير وقت الصلاة ؟ فقال : هموم لزمتني ، وديون يا رسول الله ، فقال : ألا أعلمك كلاماً إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى دينك ؟ قال : قلت : بلى يا رسول الله ، قال : قل إذا أصبحت وإذا أمسيت : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، وأعوذ بك من العجز والكسل ، وأعوذ بك من الجبن والبخل ، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال " ، قال : ففعلت ذلك ، فأذهب الله عز وجل همى ، وقضى عني ديني .
وفي سنن أبي داود عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لزم الإستغفار ، جعل الله له من كل هم فرجاً ، ومن كل ضيق مخرجاً ، ورزقه من حيث لا يحتسب " .
وفي المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر ، فزع إلى الصلاة ، وقد قال تعالى : " واستعينوا بالصبر والصلاة " [ البقرة : 45 ] .
وفي السنن : "عليكم بالجهاد ، فإنه باب من أبواب الجنة ، يدفع الله به عن النفوس الهم والغم " .
ويذكر عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله علي وسلم : " من كثرت همومه وغمومه ، فليكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله ".
وثبت في الصحيحين "أنها كنز من كنوز الجنة " .
وفي الترمذي : " أنها باب من أبواب الجنة " .
هذه الأدوية تتضمن خمسة عشر نوعاً من الدواء ، فإن لم تقو على إذهاب داء الهم والغم والحزن ، فهو داء قد استحكم ، وتمكنت أسبابه ، ويحتاج إلى استفراغ كلي .
الأول : توحيد الربوبية .
الثاني : توحيد الإلهية .
الثالث : التوحيد العلمى الإعتقادي .
الرابع : تنزيه الرب تعالى عن أن يظلم عبده ، أو يأخذه بلا سبب من العبد يوجب ذلك .
الخامس : اعتراف العبد بأنه هو الظالم .
السادس : التوسل إلى الرب تعالى بأحب الأشياء ، وهو أسماؤه وصفاته ، ومن أجمعها لمعاني الأسماء والصفات : الحي القيوم .
السابع : الإستعانة به وحده .
الثامن : إقرار العبد له بالرجاء .
التاسع : تحقيق التوكل عليه ، والتفويض إليه ، والإعتراف له بأن ناصيته في يده ، يصرفه كيف يشاء ، وأنه ماض فيه حكمه ، عدل فيه قضاؤه .
العاشر : أن يرتع قلبه في رياض القرآن ، ويجعله لقلبه كالربيع للحيوان ، وأن يستضيء به في ظلمات الشبهات واللهوات ، وأن يتسلى به عن كل فائت ، ويتعزى به عن كل مصيبة ، ويستشفي به من أدواء صدره ، فيكون جلاء حزنه ، وشفاء همه وغمه .
الحادي عشر : الإستغفار .
الثاني عشر : التوبة .
الثالث عشر : الجهاد .
الرابع عشر : الصلاة .
الخامس عشر : البراءة من الحول والقوة وتفويضهما إلى من هما بيده .
فصل
في بيان جهة تأثير هذه الأدوية في هذه الأمراض
خلق الله - سبحانه - ابن آدم وأعضاءه ، وجعل لكل عضو منها كمالاً إذا فقده أحس بالألم ، وجعل لملكها وهو القلب كمالاً ، إذا فقده ، حضرته أسقامه وآلامه من الهموم والغموم والأحزان .
فإذا فقدت العين ما خلقت له من قوة الإبصار ، وفقدت الأذن ما خلقت له من قوة السمع ، واللسان ما خلق له من قوة الكلام ، فقدت كمالها .
والقلب : خلق لمعرفة فاطره ومحبته وتوحيده والسرور به ، والإبتهاج بحبه ، والرضى عنه ، والتوكل عليه ، والحب فيه ، والبغض فيه ، والموالاة فيه ، والمعاداة فيه ، ودوام ذكره ، وأن يكون أحب إليه من كل ما سواه ، وارجي عنده من كل ما سواه ، وأجل في قلبه من كل ما سواه ، ولا نعيم له ولا سرور ولا لذة ، بل ولا حياة إلا بذلك ، وهذا له بمنزلة الغذاء والصحة والحياة ، فإذا فقد غذاءه وصحته وحياته ، فالهموم والغموم والأحزان مسارعة من كل صوب إليه ، ورهن مقيم عليه .
ومن أعظم أدوائه : الشرك والذنوب والغفلة والإستهانة بمحابه ومراضيه ، وترك التفويض إليه ، وقلة الإعتماد عليه ، والركون إلى ما سواه ، والسخط بمقدوره ، والشك في وعده ووعيده .
وإذا تأملت أمراض القلب ، وجدت هذه الأمور وأمثالها هي أسبابها لا سبب لها سواها ، فدواؤه الذي لا دواء له سواه ما تضمنته هذه العلاجات النبوية من الأمور المضادة لهذه الأدواء ، فإن المرض يزال بالضد ، والصحة تحفظ بالمثل ، فصحته تحفظ بهذه الأمور النبوية ، وأمراضه بأضدادها .
فالتوحيد : يفتح للعبد باب الخير والسرور واللذة والفرح والإبتهاج ، والتوبة استفراغ للأخلاط والمواد الفاسدة التي هي سبب أسقامه ، وحمية له من التخليط ، فهي تغلق عنه باب الشرور ، فيفتح له باب السعادة والخير بالتوحيد ، ويغلق باب الشرور بالتوبة والإستغفار .
قال بعض المتقدمين من أئمة الطب : من أراد عافية الجسم ، فليقلل من الطعام والشراب ، ومن أراد عافية القلب ، فليترك الآثام . وقال ثابت بن قرة : راحة الجسم في قلة الطعام ، وراحة الروح في قلة الآثام ، وراحة اللسان في قلة الكلام .
والذنوب للقلب ، بمنزلة السموم ، إن لم تهلكه أضعفته ، ولا بد ، وإذا ضعفت قوته ، لم يقدر على مقاومة الأمراض ، قال طبيب القلوب عبد الله بن المبارك .
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخيــر لنفسك عصيانها
فالهوى أكبر أدوائها ، ومخالفته أعظم أدويتها ، والنفس في الأصل خلقت جاهلة ظالمة ، فهي لجهلها تظن شفاءها في اتباع هواها ، وإنما فيه تلفها وعطبها ، ولظلمها لا تقبل من الطبيب الناصح ، بل تضع الداء موضع الدواء فتعتمده ، وتضع الدواء موضع الداء فتجتنبه ، فيتولد من بين إيثارها للداء ، واجتنابها للدواء أنواع من الأسقام والعلل التي تعيي الأطباء ، ويتعذر معها الشفاء . والمصيبة العظمى ، أنها تركب ذلك على القدر ، فتبرئ نفسها ، وتلوم ربها بلسان الحال دائماً ، ويقوى اللوم حتى يصرح به اللسان .
وإذا وصل العليل إلى هذه الحال ، فلا يطمع في برئه إلا أن تتداركه رحمة من ربه ، فيحييه حياة جديدة ، ويرزقه طريقة حميدة ، فلهذا كان حديث ابن عباس في دعاء الكرب مشتملاً على توحيد الإلهية والربوبية ، ووصف الرب سبحانه بالعظمة والحلم ، وهاتان الصفتان مستلزمتان لكمال القدرة والرحمة ، والإحسان والتجاوز ، ووصفه بكمال ربوبيته للعالم العلوي والسفلي ، والعرش الذي هو سقف المخلوقات وأعظمها ، والربوبية التامة تستلزم توحيده ، وأنه الذي لا تنبغي العبادة والحب والخوف والرجاء والإجلال والطاعة إلا له . وعظمته المطلقة تستلزم إثبات كل كمال له ، وسلب كل نقص وتمثيل عنه . وحلمه يستلزم كمال رحمته وإحسانه إلى خلقه .
فعلم القلب ومعرفته بذلك توجب محبته وإجلاله وتوحيده ، فيحصل له من الإبتهاج واللذة والسرور ما يدفع عنه ألم الكرب والهم والغم ، وأنت تجد المريض إذا ورد عليه ما يسره ويفرحه ، ويقوي نفسه ، كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسي ، فحصول هذا الشفاء للقلب أولى وأحرى .
ثم إذا قابلت بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف التي تضمنها دعاء الكرب ، وجدته في غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق، وخروج القلب منه إلى سعة البهجة والسرور ، وهذه الأمور إنما يصدق بها من أشرقت فيه أنوارها ، وباشر قلبه حقائقها .
وفي تأثير قوله : يا حي يا قيوم ، برحمتك أستغيث في دفع هذا الداء مناسبة بديعة ، فإن صفة الحياة متضمنة لجميع صفات الكمال ، مستلزمة لها ، وصفة القيومية متضمنة لجميع صفات الأفعال ، ولهذا كان اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى : هو اسم الحي القيوم ، والحياة التامة تضاد جميع الأسقام والآلام ، ولهذا لما كملت حياة أهل الجنة لم يلحقهم هم ولا غم ولا حزن ولا شئ من الآفات . ونقصان الحياة تضر بالأفعال ، وتنافي القيومة ، فكمال القيومية لكمال الحياة ، فالحي المطلق التام الحياة لا تفوته صفة الكمال البتة ، والقيوم لا يتعذر عليه فعل ممكن البتة ، فالتوسل بصفة الحياة القيومية له تأثير في إزالة ما يضاد الحياة ، ويضر بالأفعال .
ونظير هذا توسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه بربوبيته لجبريل وميكائيل وإسرافيل أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه، فإن حياة القلب بالهداية ، وقد وكل الله سبحانه هؤلاء الأملاك الثلاثة بالحياة ، فجبريل موكل بالوحي الذي هو حياة القلوب ، وميكائيل بالقطر الذي هو حياة الأبدان والحيوان ، وإسرافيل بالنفخ في الصور الذي هو سبب حياة العالم وعود الأرواح إلى أجسادها ، فالتوسل إليه سبحانه بربوبية هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة ، له تأثير في حصول المطلوب .
والمقصود : أن لاسم الحي القيوم تأثيراً خاصاً في إجابة الدعوات ، وكشف الكربات ، وفي السنن و صحيح أبي حاتم مرفوعاً : " اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين " وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم " [ البقرة : 163 ] ، وفاتحة آل عمران " الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم " " ، قال الترمذي : حديث صحيح .
وفي السنن و صحيح ابن حبان أيضاً : من حديث أنس أن رجلاً دعا ، فقال : اللهم إني أسألك بأن لك الحمد ، لا إله إلا أنت المنان ، بديع السماوات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا حي يا قيوم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى " .
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد في الدعاء قال : " يا حي يا قيوم " .
وفي قوله : " اللهم رحمتك أرجو ، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين ، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت " من تحقيق الرجاء لمن الخير كله بيديه والإعتماد عليه وحده ، وتفويض الأمر إليه ، والتضرع إليه ، أن يتولى إصلاح شأنه ، ولا يكله إلى نفسه ، والتوسل إليه بتوحيده مما له تأثير قوي في دفع هذا الداء ، وكذلك قوله : " الله ربي لا أشرك به شيئاً " .
وأما حديث ابن مسعود : " اللهم إني عبدك ابن عبدك " ، ففيه من المعارف الإلهية ، وأسرار العبودية ما لا يتسع له كتاب ، فإنه يتضمن الإعتراف بعبوديته وعبودية آبائه وأمهاته ، وأن ناصيته بيده يصرفها كيف يشاء ، فلا يملك العبد دونه لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ، ولا نشوراً ، لأن من ناصيته بيد غيره ، فليس إليه شئ من أمره ، بل هو عان في قبضته ، ذليل تحت سلطان قهره .
وقوله : " ماض في حكمك عدل في قضائك " متضمن لأصلين عظيمين عليهما مدار التوحيد .
أحدهما : إثبات القدر ، وأن أحكام الرب تعالى نافذة في عبده ماضية فيه ، لا انفكاك له عنها ، ولا حيلة له في دفعها .
والثاني : أنه - سبحانه - عدل في هذه الأحكام ، غير ظالم لعبده ، بل لا يخرج فيها عن موجب العدل والإحسان ، فإن الظلم سببه حاجة الظالم ، أو جهله ، أو سفهه ، فيستحيل صدوره ممن هو بكل شئ عليم ، ومن هو غني عن كل شئ ، وكل شئ فقير إليه ، ومن هو أحكم الحاكمين ، فلا تخرج ذرة من مقدوراته عن حكمته وحمده ، كما لم تخرج عن قدرته ومشيئته ، فحكمته نافذة حيث نفذت مشيئته وقدرته ، ولهذا قال نبي الله هود صلى الله على نبينا وعليه وسلم ، وقد خوفه قومه بآلهتهم : " إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون * من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم " [هود : 54 - 57 ] ، أي: مع كونه سبحانه آخذاً بنواصي خلقه وتصريفهم كما يشاء ، فهو على صراط مستقيم لا يتصرف فيهم إلا بالعدل والحكمة ، والإحسان والرحمة . فقوله : ماض في حكمك ، مطابق لقوله : ( ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ) ، وقوله : عدل في قضاؤك مطابق لقوله : إن ربي على صراط مستقيم ، ثم توسل إلى ربه بأسمائه التي سمى بها نفسه ما علم العباد منها وما لم يعلموا . ومنها: ما استأثره في علم الغيب عنده ، فلم يطلع عليه ملكاً مقرباً ، ولا نبياً مرسلاً ، وهذه الوسيلة أعظم الوسائل ، وأحبها إلى الله ، وأقربها تحصيلاً للمطلوب .
ثم سأله أن يجعل القرآن لقلبه كالربيع الذي يرتع فيه الحيوان ، وكذلك القرآن ربيع القلوب ، وأن يجعله شفاء همه وغمه ، فيكون له بمنزلة الدواء الذي يستأصل الداء ، ويعيد البدن إلى صحته واعتداله ، وأن يجعله لحزنه كالجلاء الذي يجلو الطبوع والأصدية ، وغيرها ، فأحرى بهذا العلاج إذا صدق العليل في استعماله أن يزيل عنه داءه ، ويعقبه شفاء تاماً ، وصحة وعافية ، والله الموفق .
وأما دعوة ذي النون : فإن فيها من كمال التوحيد والتنزيه للرب تعالى ، واعتراف العبد بظلمه وذنبه ما هو من أبلغ أدوية الكرب والهم والغم ، وأبلغ الوسائل إلى الله - سبحانه - في قضاء الحوائج ، فإن التوحيد والتنزيه يتضمنان إثبات كل كمال الله ، وسلب كل نقص وعيب وتمثيل عنه . والإعتراف بالظلم يتضمن إيمان العبد بالشرع والثواب والعقاب ، ويوجب انكساره ورجوعه إلى الله ، واستقالته عثرته ، والإعتراف بعبوديته، وافتقاره إلى ربه ، فها هنا أربعة أمور قد وقع التوسل بها : التوحيد ، والتنزيه ، والعبودية والإعتراف .
وأما حديث أبي أمامة : " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن " ، فقد تضمن الإستعاذة من ثمانية أشياء ، كل اثنين منها قرينان مزدوجان ، فالهم والحزن أخوان ، والعجز والكسل أخوان ، والجبن والبخل أخوان ، وضلع الدين وغلبة الرجال أخوان ، فإن المكروه المؤلم إذا ورد على القلب ، فإما أن يكون سببه أمراً ماضياً ، فيوجب له الحزن ، وإن كان أمراً متوقعاً في المستقبل ، أوجب الهم ، وتخلف العبد عن مصالحه وتفويتها عليه ، إما أن يكون من عدم القدرة وهو العجز ، أو من عدم الإرادة وهو الكسل ، وحبس خيره ونفعه عن نفسه وعن بني جنسه ، إما أن يكون منع نفعه ببدنه ، فهو الجبن ، أو بماله ، فهو البخل ، وقهر الناس له إما بحق ، فهو ضلع الدين ، أو بباطل فهو غلبة الرجال ، فقد تضمن الحديث الإستعاذة من كل شر ، وأما تأثير الإستغفار في دفع الهم والغم والضيق ، فلما اشترك في العلم به أهل الملل وعقلاء كل أمة أن المعاصي والفساد توجب الهم والغم ، والخوف والحزن ، وضيق الصدر ، وأمراض القلب ، حتى إن أهلها إذا قضوا منها أوطارهم ، وسئمتها نفوسهم ، ارتكبوها دفعاً لما يجدونه في صدورهم من الضيق والهم والغم ، كما قال شيخ الفسوق :
وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها
وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام في القلوب ، فلا دواء لها إلا التوبة والإستغفار .
وأما الصلاة ، فشأنها في تفريح القلب وتقويته ، وشرحه وابتهاجه ولذته أكبر شأن ، وفيها من اتصال القلب والروح بالله ، وقربه والتنعم بذكره ، والإبتهاج بمناجاته ، والوقوف بين يديه ، واستعمال جميع البدن وقواه وآلاته في عبوديته ، وإعطاء كل عضو حظه منها ، واشتغاله عن التعلق بالخلق وملابستهم ومحاوراتهم ، وانجذاب قوى قلبه وجوارحه إلى ربه وفاطره ، وراحته من عدوه حالة الصلاة ما صارت به من أكبر الأدوية والمفرحات والأغذية التي لا تلائم إلا القلوب الصحيحة . وأما القلوب العليلة ، فهي كالأبدان لا تناسبها إلا الأغذية الفاضلة .
فالصل اة من أكبر العون على تحصيل مصالح الدنيا والآخرة ، ودفع مفاسد الدنيا والآخرة ، وهي منهاة عن الإثم ، ودافعة لأدواء القلوب ، ومطردة للداء عن الجسد ، ومنورة للقلب ، ومبيضة للوجه ، ومنشطة للجوارح والنفس ، وجالبة للرزق ، ودافعة للظلم ، ومنزلة للرحمة ، وكاشفة للغمة ، ونافعة من كثير من أوجاع البطن . وقد روى ابن ماجه في سننه من حديث مجاهد ، عن أبي هريرة قال : رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا نائم أشكو من وجع بطني ، فقال لي : " يا أبا هريرة أشكمت درد ؟ قال : قلت : نعم يا رسول الله ، قال : قم فصل ، فإن في الصلاة شفاء " . وقد روي هذا الحديث موقوفاً على أبي هريرة ، وأنه هو الذي قال ذلك لمجاهد ، وهو أشبه . ومعنى هذه اللفظة بالفارسي : أيوجعك بطنك ؟ .
فإن لم ينشرح صدر زنديق الأطباء بهذا العلاج ، فيخاطب بصناعة الطب ، ويقال له : الصلاة رياضة النفس والبدن جميعاً ، إذ كانت تشتمل على حركات وأوضاع مختلفة من الإنتصاب ، والركوع ، والسجود ، والتورك ، والإنتقالات وغيرها من الأوضاع التي يتحرك معها أكثر المفاصل ، وينغمز معها أكثر الأعضاء الباطنة ، كالمعدة ، والأمعاء ، وسائر آلات النفس ، والغذاء ، فما ينكر أن يكون في هذه الحركات تقوية وتحليل للمواد ، ولا سيما بواسطة قوة النفس وانشراحها في الصلاة ، فتقوى الطبيعة ، فيندفع الألم ، ولكن داء الزندقة والإعراض عما جاءت به الرسل ، والتعوض عنه بالإلحاد داء ليس له دواء إلا نار تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى .
وأما تأثير الجهاد في دفع الهم والغم ، فأمر معلوم بالوجدان ، فإن النفس متى تركت صائل الباطل وصولته واستيلاءه ، اشتد همها وغمها ، وكربها وخوفها ، فإذا جاهدته لله أبدل الله ذلك الهم والحزن فرحاً ونشاطاً وقوة ، كما قال تعالى : " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم " [ التوبة : 14 ، 15 ] ، فلا شئ أذهب لجوى القلب وغمه وهمه وحزنه من الجهاد ، والله المستعان .
وأما تأث ير لا حول ولا قوة إلا بالله في دفع هذا الداء ، فلما فيها من كمال التفويض والتبري من الحول والقوة إلا به ، وتسليم الأمر كله له ، وعدم منازعته في شئ منه ، وعموم ذلك لكل تحول من حال إلى حال في العالم العلوي والسفلي ، والقوة على ذلك التحول ، وأن ذلك كله بالله وحده ، فلا يقوم لهذه الكلمة شئ . وفي بعض الآثار : إنه ما ينزل ملك من السماء ، ولا يصعد إليها إلا بلا حول ولا قوة إلا بالله ، ولها تأثير عجيب في طرد الشيطان ، والله المستعان .
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الفزع ، والأرق المانع من النوم
روى الترمذي في جامعه عن بريدة قال : شكى خالد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! ما أنام الليل من الأرق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا أويت إلى فراشك فقل : اللهم رب السماوات السبع وما أظلت ، ورب الأرضين ، وما أقلت ، ورب الشياطين ، وما أضلت ، كن لي جاراً من شر خلقك كلهم جميعاً أن يفرط علي أحد منهم ، أو يبغي علي ، عز جارك ، وجل ثناؤك، ولا إله غيرك " .
وفيه أيضاً : عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم من الفزع : " أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه ، وعقابه ، وشر عباده ، ومن همزات الشياطين ، وأعوذ بك رب أن يحضرون " ، قال : وكان عبد الله بن عمرو يعلمهن من عقل من بنيه . ومن لم يعقل كتبه ، فأعلقه عليه ، ولا يخفى مناسبة هذه العوذة لعلاج هذا الداء .
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج داء الحريق وإطفائه
يذكر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا رأيتم الحريق فكبروا ، فإن التكبير يطفئه " . لما كان الحريق سببه النار ، وهي مادة الشيطان التي خلق منها ، وكان فيه من الفساد العام ما يناسب الشيطان بمادته وفعله ، كان للشيطان إعانة عليه ، وتنفيذ له ، وكانت النار تطلب بطبعها العلو والفساد ، وهذان الأمران ، وهما العلو في الأرض والفساد هما هدي الشيطان ، وإليهما يدعو ، وبهما يهلك بني آدم ، فالنار والشيطان كل منهما يريد العلو في الأرض والفساد ، وكبرياء الرب - عز وجل - تقمع الشيطان وفعله .
ولهذا كان تكبير الله - عز وجل - له أثر في إطفاء الحريق ، فإن كبرياء الله - عز وجل - لا يقوم لها شئ ، فإذا كبر المسلم ربه ، أثر تكبيره في خمود النار وخمود الشيطان التي هي مادته ، فيطفئ الحريق ، وقد جربنا نحن وغيرنا هذا ، فوجدناه كذلك، والله أعلم .
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في حفظ الصحة بالطيب
لما كانت الرائحة الطيبة غذاء الروح ، والروح مطية القوى ، والق وى تزداد بالطيب ، وهو ينفع الدماغ والقلب ، وسائر الأعضاء الباطنية ، ويفرح القلب ، ويسر النفس ويبسط الروح ، وهو أصدق شئ للروح ، وأشده ملاءمة لها ، وبينه وبين الروح الطيبة نسبة قريبة . كان أحد المحبوبين من الدنيا إلى أطيب الطيبين صلوات الله عليه وسلامه .
وفي صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يرد الطيب .
وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم : " من عرض عليه ريحان ، فلا يرده فإنه طيب الريح ، خفيف المحمل " .
وفي سنن أبي داود والنسائي ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من عرض عليه طيب ، فلا يرده ، فإنه خفيف المحمل طيب الرائحة " .
وفي مسند البزار : عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله طيب يجب الطيب ، نظيف يحب النظافة ، كريم يحب الكرم ، جواد يحب الجود ، فنظفوا أفناءكم وساحاتكم ، ولا تشبهوا باليهود يجمعون الأكب في دورهم " . الأكب : الزبالة .
وذكر ابن أبي شيبة ، أنه صلى الله عليه وسلم كان له سكة يتطيب منها .
وصح عنه أنه قال : " إن لله حقاً على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام ، وإن كان له طيب أن يمس منه " . وفي الطيب من الخاصية ، أن الملائكة تحبه ، والشياطين تنفر عنه ، وأحب شئ إلى الشياطين الرائحة المنتنة الكريهة ، فالأرواح الطيبة تحب الرائحة الطيبة ، والأرواح الخبيثة تحب الرائحة الخبيثة ، وكل روح تميل إلى ما يناسبها ، فالخبيثات للخبيثين، والخبيثون للخبيثات، والطيبات للطيبين ، والطيبيون للطيبات ، وهذا وإن كان في النساء والرجال ، فإنه يتناول الأعمال والأقوال ، والمطاعم والمشارب، والملابس والروائح ، إما بعموم لفظه ، أو بعموم معناه .
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في حفظ صحة العين
روى أبو داود في سننه عن عبد الرحمن بن النعمان بن معبد بن هوذة الأنصاري ، عن أبيه ، عن جده رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالإثمد المروح عند النوم وقال : " ليتقه الصائم " . قال أبو عبيد : المروح : المطيب بالمسك .
وفي سنن ابن ماجه وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت للنبي صلى الله عليه وسلم مكحلة يكتحل منها ثلاثاً في كل عين .
وفي الترمذي : عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اكتحل يجعل في اليمنى ثلاثاً ، يبتدىء بها ، ويختم بها ، وفي اليسرى ثنتين .
وقد روى أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم : " من اكتحل فليوتر " . فهل الوتر بالنسبة إلى العينين كلتيهما ، فيكون في هذه ثلاث ، وفي هذه ثنتان ، واليمنى أولى بالإبتداء والتفضيل ، أو هو بالنسبة إلى كل عين ، فيكون في هذه ثلاث ، وفي هذه ثلاث ، وهما قولان في مذهب أحمد وغيره .
وفي الكحل حفظ لصحة العين ، وتقوية للنور الباصر ، وجلاء لها ، وتلطيف للمادة الرديئة ، واستخراج لها مع الزينة في بعض أنواعه ، وله عند النوم مزيد فضل لاشتمالها على الكحل ، وسكونها عقيبه عن الحركة المضرة بها ، وخدمة الطبيعة لها ، وللإثمد من ذلك خاصية .
وفي سنن ابن ماجه عن سالم عن أبيه يرفعه : " عليكم بالإثمد ، فإنه يجلو البصر ، وينبت الشعر " .
وفي كتاب أبي نعيم : " فإنه منبتة للشعر ، مذهبة للقذى ، مصفاة للبصر " .
وفي سنن ابن ماجه أيضاً : عن ابن عباس - رضي الله عنهما - يرفعه : " خير أكحالكم الإثمد ، يجلو البصر ، وينبت الشعر"